Friday, June 12, 2009

وقائع العرض المسرحى الأوبامى

أعادت الحالة الاستعراضية المسرحية التي صاحبت أجواء خطبة الخميس لباراك حسين أوباما فن الخطابة إلى الأذهان بعدما كان قد صار جزءاً من التاريخ في وقت أصبح السياسيون يفضلون مخاطبة شعوبهم أو جمهورهم من أمام كاميرات الفضائيات. لم يطرح أوباما فقط رؤيته الجديدة للعلاقات مع العالم الإسلامي بل أيضاً مفهوماً جديداً لتكنيك المسرح والخطابة والتأثير على الجماهير.

حينما اقتربنا من المنطقة المحظورة بجوار جامعة القاهرة صباح يوم الخميس ألتفت لي سائق التاكسي وقال "والنبي يا أستاذ، فيه عندى رجاء صغير" توقعت أن يحملني رسالة ما لأوباما، لكن السائق العجوز الذي قضي فترة من عمره في عراق الثمانيات أوصانى فقط ألا أتهور وأقوم بأى حركة باستخدام الحذاء في إشارة إلى موقعة الزيادى، وذلك على حد قوله لأننا "شبعنا من الفنجرة (الاستعراض) الفارغة". ثم توقف على آخر حدود الدقي أمام أحد الحواجز الأمنية وقال "لغاية هنا يا أستاذ ولا أستطيع معك صبري، إذا تقدمت أنت اخترقت، وإذا تقدمت أنا احترقت"

لم تكن السيارات الملكي أو الأجرة هي فقط غير المسموح له بالمرور بل حتى بعض سيارات الأمن المركزي رفض رجال الأمن تواجدها، واصطف على طول سور الجامعة عشرات الحرس ببذلات فخمة أو ملابس مدنية، أما شارع الجامعة فقد امتلأ بالضيوف الذين ترجلوا من سيارتهم وقطعوا المسافة الباقية نحو قبة جامعة القاهرة مشياً على الأقدام تحت شمس الظهيرة التي كانت في بداية عنفوانها الصباحى.

كان المشهد بمثابة الجزء التحضيري من العرض الذي سيصل ذروته مع خطاب الرئيس الأمريكي الموجه للعالم الإسلامي. وقف الحضور في صف طويل أمام بوابة الجامعة وجميعهم مثلما طلب منهم في الدعوة لا يحمل أي حقائب أو علامات أو لافتات. يمرون من أسفل جهاز كشف المعادن بينما يتحقق رجال الأمن من تطابق الاسم المكتوب على الدعوة مع البطاقة الشخصية للزائر، وأمامى أوقف رجل الأمن أيمن نور ليسأله عن بطاقته الشخصية بينما نور يصارحه أن بطاقته ليست معه. وفي الداخل كانت القاعة ممتلئة بالحضور من الساعة العاشرة والنصف رغم أن أوباما لم يصعد المنصة إلا في الواحدة.

خصصت الصفوف الأولى من القاعة لرجال الدولة السابقين والحاليين وعدد من رجال الأزهر ورموز الكنيسة المصرية بالإضافة إلى "الزعيم" عادل إمام، بينما جلس بقية الفنانين في الصفوف الخلفية إلى جانب مجموعة صغيرة من الكتاب والعاملين في مجال حقوق الإنسان وممثلي الأحزاب السياسية المصرية المختلفة، بالإضافة إلى طلبة الأزهر الأفارقة والآسيويين الذين شكلوا بحيرة من الألوان بملابسهم المزركشة وسط طوفان البذلات  الرسمية السوداء، أما مدرج الدور الثاني فقد جلس فيه الصحفيون والمدونون الذين وجهت السفارة الدعوة إلى عدد كبير منهم، إلى جانب عدد من العاملين بهيئات تدريس الجامعات المصرية. واحتل الدور الثالث عدد من طلبة الجامعات المصرية الذين تم اختيارهم بعناية ورغم أنه لم يتم دعوة طلبة من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، إلا أن طلبة مدرسة "الأمريكان كولدج" الثانوية كانوا الأكثر حضوراً حيث كانوا الأكثر حماساً في التصفيق والصفير أثناء خطاب أوباما.

الساعتين اللتان سبقا ظهور "الأوباما" كانت فرصة لمشاهدة أكبر عدد من الرموز والشخصيات العامة المصرية المتباينة التي لم يكن لأحد القدرة على جمعهم تحت سقف واحد سوى باراك أوباما، بعضهم استغل الوقت في تبادل التحيات والسلام مع أصدقاء قدامى أو تجنب أعداء جدد، وكان أيمن نور أنشط المدعويين يتنقل بين الصفوف ويتبادل الأحضان والتحيات مع كل الحضور بداية من المخرج خالد يوسف وحتى الطلبة الأفارقة الذين أصر كل واحد فيهم على التقاط صورة منفرده له مع نور، بينما سعى الطلبة الأسيوين إلي اختراق الطوق الأمنى حول الصفوف الأولى لمصافحة عادل إمام والتقاط الصور معه، أما في الصفوف الأخيرة فقد جلس الروائي إبراهيم عبد المجيد، بجواره سلوى بكر، فؤاد قنديل، محمد السيد عيد، د.حسن نافعه، ويسري العزب، بينما اعتذر رئيس اتحاد الكتاب العرب محمد سلماوى عن الحضور لأن " الدعوة التى تلقيتها تضمنت حظراً على كل ما كنت أنوى الذهاب إلى الخطاب من أجله، فقد نصت بطاقة الدعوة على أنه غير مسموح بإحضار الحقائب ولا العلامات ولا اللافتات، بينما كنت قد أعددت حقائبى كلها ووضعتها عند باب الشقة، لأخذها معى إلى الخطاب، حتى أكون جاهزاً للقفز فوراً فى الطائرة Air force one المخصصة للرؤساء الأمريكيين قبل أن تتمكن قوات الأمن المصرية من منعى أو مصادرة الحقائب." وذلك طبقاً لما كتبه في مقاله الساخر في جريدة المصري اليوم.

المسرح أصبح مستعداً وبدأت الموسيقي التصويرية مع عمار الشريعى وتترات مسلسل أم كلثوم، ثم تغيير الإيقاع إلى موسيقي عمر خيرت "موسيقار المناسبات الرسمية". أطل زكريا عزمى رئيس ديوان الجمهورية للحظات مع معاونيه تفقد المسرح. ثم فجأة انقطعت تغطية كل شبكات أجهزة المحمول الموجودة في القاعة ليبدأ رجال الدولة في التوافد يتقدمهم الوزير عمرو سليمان رئيس المخابرات يليه جمال مبارك ثم صفوت الشريف يصحبه كمال الشاذلي. وبعد ذلك حضر فضيلة المفتى على جمعة والبابا شنودة والسفيرة الأمريكية بالقاهرة مارجريت سكوبي التى صافحت رجال الدولة في الصف الأول بيدها وحينما اقتربت من فضيلة المفتى أوشك أن يمد يده لكنها وضعت يدها على صدرها واكتفت بالانحناء له من بعيد. ثم دخل القاعة طاقم صحفيي البيت الأبيض الذي يصاحب أوباما طوال الوقت حيث جلسوا أسفل منصة المسرح وقد نصبوا كاميراتهم وفتحوا أجهزة الكمبيوتر، وبينما أخذ الحضور يستعد لظهور نجم الحفل ارتفع الصوت من خلال السماعات "السادة الحضور برجاء ترك سماعات الترجمة مكانها بعد المحاضرة" فانفجرت القاعة بالضحك.

أخر رجال الدولة المصرية حضوراً كان رئيس الوزراء أحمد نظيف الذي جلس بالطبع في الصف الأول، ثم صعد المسرح أحد موظفي البيت الأبيض ومعه حقيبة بلاستيكية دائرية، فتحها وأخرج منها شعار البيت الأبيض الذي يحمل النسر الأمريكي الشهير ولصقها على المنبر الخشبي الذي سيلقي من خلفه أوباما كلمته، كانت تلك هى لمسة الديكور الأخيرة التى ستضاف على المسرح قبل أن تدخل هيلاري كلينتون القاعة من باب جانبي فيرتفع تصفيق الحضور لأول مرة وهو الأمر الذي لم تتوقعه على ما يبدو هيلاري التى ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها وهى تلوح للجمهور، لكن أوباما الذي سبق وانتزع كرسي مرشح الحزب الديمقراطى من هيلاري لم يعطها الفرصة للتمتع بتصفيق الجمهور إذا ارتفع الصوت بالانجليزية منبهاً "أيها السيدات والسادة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية" لتنفتح الستارة ويظهر أوباما ملوحاً بيده لتعلو موجة التصفيق يصاحبها حالة من الهتاف والصفير بينما كان الطلبة الأفارقة أكثر الحضور حماسة حيث أخذوا يقفزون على أقدامهم وهم يهتفون باسم أوباما.

استغرق الأمر حوالى 60 ثانية لكى يسيطر أوباما على الحضور ويبدأ كلمته بالانجليزية "شكرا جزيلا، وطاب عصركم. إنه لمن دواعي شرفي أن أزور مدينة القاهرة الأزلية حيث تستضيفني فيها مؤسستان مرموقتان للغاية، إحداهما الأزهر الذي بقي لأكثر من ألف سنة منارة العلوم الإسلامية، بينما كانت جامعة القاهرة على مدى أكثر من قرن بمثابة منهل من مناهل التقدم في مصر. ومعاً تمثلان حسن الاتساق والانسجام ما بين التقاليد والتقدم. وإنني ممتن لكم لحسن ضيافتكم ولحفاوة شعب مصر. كما أنني فخور بنقل أطيب مشاعر الشعب الأمريكي لكم مقرونة بتحية السلام من المجتعات المحلية المسلمة في بلدي" ثم بعربية مكسره حاول نطق حرف العين قائلاً "السلام أليكم" لترتفع موجة التصفيق من جديد.

كانت الفقرة السابقة كافية لترضي غرور الحاضرين الذين ارتسمت ابتسامة واسعة على وجههم، لينتقل أوباما بعد ذلك إلى صلب الموضوع معترفاً بوجود توتر كبير بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم وهو على حد وصفه "توتر تمتد جذوره إلى قوى تاريخية تتجاوز أي نقاش سياسي راهن" موضحاً أن سبب زيارته هو البحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم، مؤكداً في نفس الوقت أن هذا التغيير ليس من الممكن أن يحدث بين ليلة وضحاها ولا يمكن لخطاب واحد "أن يلغي سنوات من عدم الثقة، كما لا يمكنني في الوقت المتاح لي في عصر هذا اليوم أن أقدم الإجابة الوافية عن كافة المسائل المعقدة التي أدت بنا إلى هذه النقطة."

 خطاب أوباما تم إعداده بالطبع قبل الزيارة، ورغم أنه كان يقرأ من شاشتين زجاجتين أمامه لا يمكن لكاميرات التلفزيون أن تلتقطهما، إلا أن بلاغة أوباما وحضوره على المسرح واستخدامه ليديه وتعبيرات وجهه جعلت جميع من في القاعة يندمج مع خطبته التى استغرقت ما يقرب الساعة. كان يدرك أيضاً أين يسرع من نبرة صوته (حينما يتحدث عن حق إسرائيل) وأين يضغط على مخارج الألفاظ ونهاية الكلمات محذراً من خطورة إطلاق سباق للتسلح النووى، ومتى يتوقف بعد كل فقرة يستشهد فيه بالقرآن الكريم أو يشير إلى منجز الحضارة الإسلامية لكى يعطي مساحة لتصفيق الجمهور الذي اندمج مع أوباما في حالة فنية خالصة. بل شاركه بعض الفنانون والممثلون الموجودون في القاعة الأداء حيث وقف الممثل شريف منير في منتصف القاعة هاتفاً بالانجليزيه (رغم أنه كان يستمع إلى الخطاب بالعربية من خلال سماعات الترجمة) "أنا أحبك يا أوباما.. أحبك يا أوباما" ولم يسكت شريف إلا حينما رد عليه أوباما "شكراً"

انتهت الخطبة وبدأ الجمهور في الانصراف حيث تكدسوا لدقائق في حديقة الجامعة حتى يمر الموكب الرسمى أولاً، وتحت النصب التذكاري وقف حوالى 7 أمريكان من حركة Code Pink الداعية للسلام ممسكين بلوحات وردية اللون – اللون المميز للحركة- ويهتفون بالانجلزية مطالبين أوباما بالتوقف عن دعم إسرائيل ومحاكمة القادة الإسرائيليين المتورطين في جرائم حرب في غزة، ورغم الأمن المكثف والحراسة المشددة إلا أن رجال الأمن كان يكتفون بالابتسام للمتظاهرين السبعة الذبن بدو كممثلين ثانويين جاءوا مع أوباما لإكمال العرض. 

-------------------------------- -

نشرت في أخبار الأدب العدد رقم 831

 

No comments: